إيمان خليف: قصة ملاكمة أعادت الأمل للجزائر

في قرية صغيرة بولاية تيارت شمال غرب الجزائر، حيث تُحكم التقاليد على حياة الفتيات، وأين يُعتبر خروجهن للّعب ضد العادات والتقاليد ، وُلدت إيمان خليف في الثاني من مايو 1999، كبرت بين ستّ شقيقات وأخٍ وحيد، في بيئة بسيطة ترفض فكرة أن تمارس الفتاة الرياضة، لكنّ إيمان كانت مختلفة.

وفي تلك القرية النائية، أين كانت ملاعب الطفولة حكرًا على الذكور، ونادرًا ما يُسمح للفتيات بمغادرة أسوار المنزل، نشأ شغف إيمان بكرة القدم، لم تستسلم للقيود الاجتماعية، بل كانت تنطلق لتلعب في طرقات القرية مع الصبية، وهناك عُرفت بشراستها في الملعب ومنافستها القوية لهم، الأمر الذي صقل قدراتها البدنية المذهلة.

ولم تمنعها العادات ولا نظرات المجتمع من أن تُحبّ كرة القدم، فانطلقت تلعب في أزقة القرية مع الأولاد، غير مبالية بالانتقادات، بل إنّ شغفها وصل إلى حدّ المشاجرات أثناء اللعب، تلك المشاجرات التي كشفت عن قوّتها الجسدية الفطرية، وفتحت لها باباً غير متوقّع ألا وهو اكتشاف موهبتها في الملاكمة.

ورغم القيود الاجتماعية التي فرضتها بيئة إيمان، كانت قدراتها البدنية تدفعها نحو الحركة والنشاط، لحسن حظها، لم تغفل عين مدرب النادي عن موهبتها الكامنة، فسعى للقاء والدها لإقناعه بأهمية تدريبها في النادي، و لم تكن موافقة الأب نهاية المطاف، فبعد المسافة التي تفصل قريتهم عن النادي (عشرة كيلومترات) شكلت تحديًا لوجستيًا وماديًا، هنا تجلت إرادة إيمان وعائلتها، حيث باعت الخبز في الشوارع، وساعدتها والدتها ببيع الكسكس، لتوفير ثمن الرحلات إلى التدريب.

بعد ثلاث سنوات قضتها إيمان في التدريب بإصرار وعزيمة راسخة، كانت كفيلة بأن تبرز موهبة إيمان وتضيء بها ملاعب الجزائر، و لم يمر وقت طويل حتى وجدت نفسها جزءًا من المنتخب الوطني، لتمثل بلادها في بطولة العالم 2018 وهي في سن التاسعة عشرة، ومنذ اللحظة التي توجت فيها بذهبية أولمبياد باريس 2024، أصبحت إيمان نجمة ساطعة في سماء الجزائر، تحظى بحب وتقدير الجميع، و لم يكن انتصار خليف مجرد فوز رياضي، بل أصبح قصة ملهمة، وصورة للمرأة التي تتحدى القيود وتعيد تشكيل مفهوم الأنوثة والقوة في عالم الرياضة.

ولم يسلم طريق نجاح الملاكمة الجزائرية إيمان خليف من موجات مؤلمة من التنمر والعنصرية، بشكل متكرر، تتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة للجدل المسيء حول جنسها، حيث تُطلق عليها اتهامات باطلة بأنها رجل ينافس في فئة السيدات ظلمًا، و غالبًا ما تترافق هذه الاتهامات مع تعليقات جارحة تستغل النقاشات الدائرة حول “الاستيقاظ” في الألعاب الأولمبية وتعكس تعصبًا وكراهية تجاه النساء المتحولات جنسيًا، مما يخلق بيئة عدائية للاعبة.

وخلقت قضية الهوية الجنسية لإيمان عاصفة من الجدل خلال أولمبياد باريس، فقد سبق أن أوقفها الاتحاد الدولي للملاكمة قبل عامين خلال بطولة العالم بسبب هذه الشكوك، ووصل الأمر إلى حد لجوء الاتحاد الدولي للملاكمة إلى القضاء، حيث رفع دعوى قضائية ضد اللجنة الأولمبية الدولية اعتراضًا على مشاركة إيمان في أولمبياد باريس الذي أقيم الصيف الماضي، مما أظهر حجم الضغط والتشكيك الذي واجهته اللاعبة.

وبعد تدخل اللجنة الأولمبية الدولية لإدارة شؤون الملاكمة في ألعاب طوكيو 2021، تكرر الأمر ذاته في أولمبياد باريس 2024، مما يعكس استمرار التحديات التي تواجهها على المستوى الإداري. فهذا الوضع غير المستقر أثر بشكل كبير على الملاكمين، بمن فيهم إيمان، وزاد من حالة الضبابية حول مستقبل مشاركتهم في المحافل الأولمبية.

وواجهت إيمان العديد من التحديات النفسية في مسيرتها، لكنها أظهرت قدرة استثنائية على تجاوزها، إلا أن الاستبعاد من بطولة العالم، بعد وصولها إلى النهائي للمرة الثانية على التوالي، كان بمثابة ضربة موجعة لأي رياضي، لكن إيمان، بإيمانها الراسخ، حولت هذه المحنة إلى دافع، فبعد الاستبعاد، صرحت بفخرها بتمثيل الجزائر، ووصفت ما حدث بالمؤامرة، وسرعان ما عادت للتدريب والعزم يملأ قلبها لمواجهة التحديات المقبلة.

بعزيمة قوية، تخطت إيمان كل الجدل والتحديات لتنتزع ذهبية وزن 66 كيلوغرامًا، معلنة بثقة: “أنا امرأة مثل أي امرأة أخرى”، وموجهة رسالة قوية للاتحاد الدولي عبر ميداليتها الذهبية، وحاليا، تتطلع إيمان خليف (25 عامًا) بعين طموحة نحو تحقيق ميدالية في بطولة العالم القادمة في ليفربول، التي تنظمها الهيئة الناشئة للملاكمة العالمية المعترف بها من قبل اللجنة الأولمبية الدولية بعد سنوات من الصراعات التي أثرت على هذه الرياضة.

قصة إيمان خليف، من صعودها اللافت في عالم الملاكمة ووصولها إلى نهائي بطولة العالم، مرورًا بمرارة الاستبعاد والتنمر، وصولًا إلى عودتها المظفرة التي أثمرت ميدالية تاريخية، هي شهادة حية على قوة الإرادة والإصرار في وجه أقسى الظروف، هذا الإنجاز، الذي طال انتظاره في الجزائر لعقود، يمثل تتويجًا لمسيرة إيمان الطويلة والمضنية، وقصتها ستظل نبراسًا لكل من يواجه الشكوك والتحديات، وتذكيرًا بأن الإيمان بالنفس هو مفتاح تحقيق المستحيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *